Nombre total de pages vues

مرحبا بكم في مدونتي أتمنى لكم الاستفادة أخوكم الناصر عزيز

أخوكم الناصر عزيز الإمام الخطيب بجامع عمر بن الخطاب بالساحلين أرحب بكم متمنيا لكم الاستفادة وملتمسا منكم التعليق حتى أستنير بملاحظاتكم
كما أرجوكم الانخراط في هذا الموقع في خانة
s'inscrire
ووضع عنوانكم الالكتروني لمدكم بكل جديد بالموقع
كما بامكان السادةوالسيدات المقيمين خارج الوطن الذين يزورون هذه المدونة باستمرار متابعة الدروس والتسجيل لاجراء اختبار كتابي في نهاية هذه الدورة

samedi 9 juillet 2011

الحرب الاعلامية الفاشلة التي بشنها تلاميذ الوليد بن المغيرة على رسول الله

بلغ الحسد من الوليد بن المغيرة أغنى أغنياء قريش مبلغا عظيما فكيف يوحى إلى رسول الله محمد الفقير ولا يوحى إليه فشن حربا اعلامية شديدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكبر دليل على فشلها اسلام ابنه خالد رضي الله عنه سيف الله المسلول وهذه الايام يشن تلامذة الوليد بن المغيرة نفس الحرب الاعلامية وستبوء بإذن الله بالفشل الذريع فالمسلمون لا يزدادون إلا تمسكا بدينهم وحبا لنبيهم
استمعوا إلى خطبة الجمعة 9جويلية 2011 حول هذا الموضوع
http://www.facebook.com/video/video.php?v=233519283337396&oid=332620001474



mardi 5 juillet 2011

تفسير الآية: وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً

ااسم السورة : النساء | رقم الآية : 112                 
هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيراً، ولا تعرف لها البشرية شبيهاً.. وتشهد - وحدها - بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر - مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم - لا يمكن أن يرتفعوا - بأنفسهم - إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله.. هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية - إلا في ظل هذا المنهج - ولا تملك الصعود إليه أبداً إلا في ظل هذا المنهج كذلك!
إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة، التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين؛ والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانباً منها ومن فعلها في الصف المسلم..
في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب؛ ويؤلبون المشركين؛ ويشجعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق؛ ويطلقون الإشاعات؛ ويضللون العقول؛ ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة؛ ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج.. والإسلام ناشىء في المدينة، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس؛ ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم، تمثل خطراً حقيقياً على تماسك الصف المسلم وتناسقه..
في هذا الوقت الحرج، الخطر، الشديد الخطورة.. كانت هذه الآيات كلها تتنزل، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الجماعة المسلمة، لتنصف رجلاً يهودياً، اتهم ظلماً بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة. والأنصار يومئذ هم عدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة...!
أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب، يتهاوى دون هذه القمة السامقة؛ التي لا يبلغها البشر وحدهم. بل لا يعرفها البشر وحدهم. إلا أن يقادوا بمنهج الله، إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء؟!
والقصة التي رويت من عدة مصادر في سبب نزول هذه الآيات أن نفراً من الأنصار - قتادة بن النعمان وعمه رفاعة - غزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته. فسرقت درع لأحدهم (رفاعة). فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم: بنو أبيرق. فأتى صاحب الدرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. (وفي رواية: إنه بشير بن أبيرق.. وفي هذه الرواية: أن بشيراً هذا كان منافقاً يقول الشعر في ذم الصحابة وينسبه لبعض العرب!) فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي (اسمه زيد ابن السمين). وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع، وألقيتها في بيت فلان. وستوجد عنده. فانطلقوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله: إن صاحبنا بريء، وإن الذي سرق الدرع فلان. وقد أحطنا بذلك علماً. فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك.. ولما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس. وكان أهله قد قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي - إن قتادة بن النعمان وعمه عمداً إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت! قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته. فقال: "
عمدت الى إهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟" قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله المستعان.. فلم نلبث أن نزلت: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً} - أي بني أبيرق - وخصيماً: أي محامياً ومدافعاً ومجادلاً عنهم - {واستغفر الله} - أي مما قلت لقتادة - {إن الله كان غفوراً رحيماً}.. {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} - إلى قوله تعالى: {رحيماً} - أي لو استغفروا الله لغفر لهم - {ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه} - إلى قوله: {إثماً مبيناً}.. {ولولا فضل الله عليك ورحمته}. إلى قوله: {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}.. فلما نزل القرآن أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح فرده إلى رفاعة.. قال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح - وكان شيخاً قد عمي - أو عشي - في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هي في سبيل الله. فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً! فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فأنزل الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيراً. إن الله لا يغفر أن يشرك به. ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً}. إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة بريء، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام - وإن كانت تبرئة بريء أمراً هائلاً ثقيل الوزن في ميزان الله - إنما كانت أكبر من ذلك. كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أياً كانت الملابسات والأحوال.
وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد؛ وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية - في كل صورها حتى في صورة العقيدة، إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس - وإقامة هذا المجتمع الجديد، الفريد في تاريخ البشرية، على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات!
ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار. بل فضحه بين الناس - على هذا النحو العنيف المكشوف..
كان هناك أكثر من سبب، لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم. ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج!
كان هناك سبب واضح عريض.. أن هذا المتهم "يهودي".. من "يهود".. يهود التي لا تدع سهماً مسموماً تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله. يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة (ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة!) يهود التي لا تعرف حقاً ولا عدلاً ولا نصفة، ولا تقيم اعتباراً لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق!
وكان هنالك سبب آخر؛ وهو أن الأمر في الأنصار. الأنصار الذين آووا ونصروا. والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن. بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي، يبعد شبح الشقاق!
وكان هنالك سبب ثالث. هو عدم إعطاء اليهود سهماً جديداً يوجهونه إلى الأنصار. وهو أن بعضهم يسرق بعضاً، ثم يتهمون اليهود! وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها والتغرير!
ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله. كان أكبر من كل هذه الاعتبارات الصغيرة. الصغيرة في حساب الإسلام. كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية. وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض ولا تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية؛ وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية. وحتى يمحص كيانها تمحيصاً شديداً؛ وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية. وحتى يقام فيها ميزان العدل - لتحكم به بين الناس - مجرداً من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئاً كبيراً لا يقدرون على تجاهله!
واختار الله - سبحانه - هذا الحادث بذاته، في ميقاته.. مع يهودي.. من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة؛ والتي تؤلب عليهم المشركين، وتؤيد بينهم المنافقين، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين! وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة، والعداوات تحيط بهم من كل جانب. ووراء كل هذه العداوات يهود!
اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف، ليقول فيه - سبحانه - للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم!
ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة! ولا للكياسة! ولا للسياسة! ولا للمهارة في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء!
ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرية! ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها!
هنا كان الأمر جداً خالصاً، لا يحتمل الدهان ولا التمويه! وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله. وأمر هذه الأمة التي تعد لتنهض بهذا المنهج وتنشره. وأمر العدل بين الناس. العدل في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس - بل لا يعرفه الناس - إلا بوحي من الله، وعون من الله.
وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة - في جميع الأمم على مدار الزمان - فيراها هنالك.. هنالك في السفوح.. ويرى بين تلك القمة السامقة والسفوح الهابطة صخوراً متردية، هنا وهناك، من الدهاء، والمراء، والسياسة، والكياسة، والبراعة، والمهارة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الوطن، ومصلحة الجماعة.. إلى آخر الأسماء والعنوانات.. فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها.. الدود..!! وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة - وحدها - صاعدة من السفح إلى القمة.. تتناثر على مدار التاريخ، وهي تتطلع إلى القمة، التي وجهها إليها المنهج الفريد.
أما العفن الذي يسمونه "العدالة" في أمم الجاهلية الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء، في مثل هذا الجو النظيف الكريم..
والآن نواجه نصوص الدرس بالتفصيل:
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً. واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله. وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول - وكان الله بما يعملون محيطاً. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلاً؟}.
إننا نحس في التعبير صرامة، يفوح منها الغضب للحق، والغيرة على العدل؛ وتشيع في جو الآيات وتفيض منها:
وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله. وإتباع هذا التذكير بالنهي عن أن يكون خصيماً للخائنين، يدافع عنهم ويجادل. وتوجيهه لاستغفار الله - سبحانه - عن هذه المجادلة.
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله. ولا تكن للخائنين خصيماً. واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً}..
ثم تكرار هذا النهي؛ ووصف هؤلاء الخائنين، الذين جادل عنهم - صلى الله عليه وسلم - بأنهم يختانون أنفسهم. وتعليل ذلك بأن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً:
{ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم. إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً}.
وهم خانوا غيرهم في الظاهر. ولكنهم في الحقيقة خانوا أنفسهم. فقد خانوا الجماعة ومنهجها، ومبادئها التي تميزها وتفردها. وخانوا الأمانة الملقاة على الجماعة كلها، وهم منها.. ثم هم يختانون أنفسهم في صورة أخرى. صورة تعريض أنفسهم للإثم الذي يجازون عليه شر الجزاء. حيث يكرههم الله، ويعاقبهم بما أثموا. وهي خيانة للنفس من غير شك.. وصورة ثالثة لخيانتهم لأنفسهم، هي تلويث هذه الأنفس وتدنيسها بالمؤامرة والكذب والخيانة.
{إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً}..
وهذ عقوبة أكبر من كل عقوبة.. وهي تلقي إلى جانبها إيحاء آخر. فالذين لا يحبهم الله لا يجوز أن يجادل عنهم أحد، ولا أن يحامي عنهم أحد. وقد كرههم الله للإثم والخيانة!
ويعقب الوصف بالإثم والخيانة تصوير منفر لسلوك هؤلاء الخونة الآثمين:
{يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله - وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول}...
وهي صورة زرية داعية إلى الاحتقار والسخرية. زرية بما فيها من ضعف والتواء، وهم يبيتون ما يبيتون من الكيد والمؤامرة والخيانة؛ ويستخفون بها عن الناس. والناس لا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً. بينما الذي يملك النفع والضر معهم وهم يبيتون ما يبيتون؛ مطلع عليهم وهم يخفون نياتهم ويستخفون. وهم يزورون من القول مالا يرضاه! فأي موقف يدعو إلى الزراية والاستهزاء أكثر من هذا الموقف؟
{وكان الله بما يعملون محيطاً}...
إجمالاً وإطلاقاً.. فأين يذهبون بما يبيتون. والله معهم إذ يبيتون. والله بكل شيء محيط وهم تحت عينه وفي قبضته؟
وتستمر الحملة التي يفوح منها الغضب؛ على كل من جادل عن الخائنين:
{ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا. فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلاً؟}..
واللهم لا مجادل عنهم يوم القيامة ولا وكيل. فما جدوى الجدال عنهم في الدنيا وهي لا تدفع عنهم ذلك اليوم الثقيل؟
وبعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة الأثمة، والعتاب الشديد للمنافحين عنهم والمجادلين. يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة وآثارها. وللحساب عليها والجزاء. ولقاعدة الجزاء عامة. القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد. ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم، وأن يتخلقوا بخلق الله - خلق العدل - فيها:
{ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً. ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه. وكان الله عليماً حكيماً.. ومن يكسب خطيئة أو إثماً، ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}..
إنها آيات ثلاث تقرر المبادىء الكلية التي يعامل بها الله عباده؛ والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضاً بها، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء.
الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه، وباب المغفرة على سعته؛ وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول:
{ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً}.. إنه - سبحانه - موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب.. والذي يعمل السوء يظلم غيره. ويظلم نفسه. وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه.. وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين. هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بوّاب! حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفوراً رحيماً..
والآية الثانية تقرر فردية التبعة. وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة. الخوف من عمله وكسبه. والطمأنينة من أن لا يحمل تبعة غيره.
{ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه. وكان الله عليماً حكيماً}..
ليست هناك خطيئة موروثة في الإسلام، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة، كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها.. وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب. مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب.. توازن عجيب، في هذا التصور الفريد. هو إحدى خصائص التصور الإسلامي وأحد مقوماته، التي تطمئن الفطرة، وتحقق العدل الإلهي المطلق؛ المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان.
والآية الثالثة تقرر تبعة من يكسب الخطيئة ثم يرمي بها البريء.. وهي الحالة المنطبقة على حالة العصابة التي يدور عليها الكلام:
{ومن يكسب خطيئة أو إثماً، ثم يرم به بريئاً، فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}..
البهتان في رميه البريء. والإثم في ارتكابه الذنب الذي رمى به البريء.. وقد احتملهما معه. وكأنما هما حمل يحمل. على طريقة التجسيم التي تبرز المعنى وتؤكده في التعبير القرآني المصور.
وبهذه القواعد الثلاث يرسم القرآن ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح. ولا يدع المجرم يمضي ناجياً إذا ألقى جرمه على سواه.. وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه؛ ويضرب موعداً مع الله - سبحانه - في كل لحظة للتائبين المستغفرين، الذين يطرقون الأبواب في كل حين. بل يلجونها بلا استئذان فيجدون الرحمة والغفران!
وأخيراً يمن الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن عصمه من الانسياق وراء المتآمرين المبيتين؛ فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله - وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول - ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم.. وهي المنة على البشرية كلها، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها لله:
{ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك. وما يضلون إلا أنفسهم. وما يضرونك من شيء. وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة. وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيماً}.
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة، شتى الألوان والأنواع؛ مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب. ولكن الله - سبحانه - كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة.
وكان الكائدون المتأمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة.. وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حافلة بتلك المحاولات؛ ونجاته وهدايته؛ وضلال المتآمرين وخيبتهم.
والله - سبحانه - يمتن عليه بفضله ورحمته هذه؛ ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئاً. بفضل من الله ورحمة.
وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة؛ وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم بريء وتبرئة جارم، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة.. تجيء المنة الكبرى.. منة الرسالة:
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيماً}.
وهي منة الله على "الإنسان" في هذه الأرض. المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً. ونشأ بها "الإنسان" كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى..
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية، لترقى بها في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة. عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب..
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية - جاهلية الغابر والحاضر - وذاق الإسلام وذاق الجاهلية..
وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلأنه هو أول من عرفها وذاقها. وأكبر من عرفها وذاقها. وأعرف من عرفها وذاقها..
{وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيماً}.
في ظلال القرآن/ سيد قطب

lundi 4 juillet 2011

وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ ؟؟ }

اسم السورة : يونس | رقم الآية : 11                  
السورة كلها - كما أسلفنا في تقديمها - لحمة واحدة، يصعب تقسيمها إلى مقاطع: شأنها في هذه الخاصية شأن سورة الأنعام التي سبق الحديث عنها في الجزء السابع - مع تميز كل سورة بشخصيتها وطابعها الخاص - فهي تتدفق في هيئة موجات متوالية؛ تنصب بمؤثراتها الموحية على القلب البشري، وتخاطبه بإيقاعات منوعة.. من التعجيب من أمر المشركين في استقبالهم للوحي والقرآن. إلى عرض المشاهد الكونية التي تتجلى فيها ألوهية الله سبحانه.. إلى عرض مشاهد القيامة. إلى عرض أحوال البشر في مواجهة الأحداث التي تمر بهم. إلى عرض مصارع الغابرين.. إلى آخر ما سبقت الإشارة إليه من الموضوعات والمؤثرات التي تحتويها السورة.
وإذا جاز تقسيم السورة إلى مقاطع مميزة. فإن أكثر من نصفها الأول يعد مقطعاً واحداً يتدفق بهذه الموجات المتتابعة. ثم تجيء قصة نوح - ومن بعده في اختصار - وقصة موسى والإشارة إلى قصة يونس؛ فتؤلف مقطعاً آخر. ثم تجيء الإيقاعات الأخيرة في السورة فتؤلف المقطع الأخير.
ونظراً لطبيعة السورة هذه فسنحاول عرضها موجة موجة - أو مجموعة من الموجات المتناسقة - كما هي طبيعتها المتميزة..
أما هذا الدرس الأول منها فيبدأ بحروف ثلاثة. {ألف. لام. را} كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف بحروف ذكرنا الرأي الذي اخترناه في تفسيرها هناك. يبدأ بهذه الأحرف مبتدأ خبره: {تلك آيات الكتاب الحكيم}..
ثم يأخذ السياق في عرض عدة أمور تبدو فيها الحكمة التي أشير إليها في وصف الكتاب. من الوحي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لينذر الناس ويبشر المؤمنين، والرد على المعترضين أن يوحي الله إلى بشر.. إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما.. إلى جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وتقدير منازل القمر ليعلموا عدد السنين والحساب.. إلى اختلاف الليل والنهار وما فيه من حكمة وتدبير..
ويتطرق من عرض هذه الآيات الكونية إلى الغافلين عنها، الذين لا يرتقبون لقاء الله مدبر كل شيء، وما ينتظر هؤلاء الغافلين من سوء المصير؛ وما ينتظر المؤمنين في الجانب الآخر من نعيم مقيم. ويسجل حكمة تأجيل المصير إلى يومه الموعود، وعدم تعجيل الشر للناس كما يستعجلون هم الخير في هذه الدنيا ولو عجل لهم بالشر كما يستعجلون بالخير لانتهى الأجل وأخذوا بذنوبهم دون إمهال.
ومن ثم وصف لطبيعة البشر في تلقيهم للشر والخير. وضراعتهم إلى الله عند مس الأذى، ونسيانهم له عند كشف الضر. ولجاجهم فيما كانوا من قبل فيه، دون اعتبار بالقرون الخالية التي سارت في الطريق ذاته، ولقيت مصارعها في ذلك الطريق!
ومع أن مصارع الغابرين كانت واضحة للعرب الذين يدعوهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن المكذبين كانوا يطلبون إلى الرسول أن يأتي لهم بقرآن غير هذا القرآن أو يبدل بعضه. غير متدبرين ولا مدركين أن القرآن من عند الله، وأن له حكمة ثابتة فهو لا يقبل التبديل. وهم يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم دون استناد إلى شيء، ويتركون عبادة الله وحده وهي تستند إلى وحي من الله. ثم يطلبون خارقة من الخوارق غير ناظرين إلى آية الله الواضحة في القرآن، غافلين عن آياته المعجزة في تضاعيف الكون.
ثم عودة إلى طبيعة البشر في تلقي الرحمة والضر، وعرض نموذج حي من هذه الطبيعة، في مشهد من المشاهد النابضة المتحركة المؤثرة. في ركوب البحر عندما تسير الفلك في أول الأمر رخاء، ثم تعصف بها الريح ويأتيها الموج من كل مكان.
ومشهد آخر يمثل غرور هذه الحياة الدنيا، وبريقها ولألاءها الذي ينطفئ في لحظة، وأهلها مأخوذون بزخرفها غافلون عن المصير الخاطف المرهوب.. ذلك والله يدعو إلى دار السلام. دار الأمن والاطمئنان. الدار التي لا خوف من أخذها على حين غرة.. {كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}.. ويدركون حكمة الله في الخلق والتدبير.
{ألر تلك آيات الكتاب الحكيم}..
من هذه الحروف وأمثالها، تتألف آيات الكتاب الحكيم، الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به إلى الرسول. وهذه الحروف في متناول أيديهم، ثم لا يبلغون أن يؤلفوا منها آية واحدة من مثل آيات الكتاب - كما يتحداهم في هذه السورة - ولا يقودهم هذا إلى التدبر، وإدراك أن الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول، وأنه لولا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزاً عن تأليف آية واحدة، من هذه الحروف المبذولة للجميع.
{تلك آيات الكتاب الحكيم}..
الحكيم الذي يخاطب البشر بما يناسب طبائع البشر، ويعرض في هذه السورة جوانب منها صادقة باقية، نجد مصداقها في كل جيل.
والحكيم الذي ينبه الغافلين إلى تدبر آيات الله في صفحة الكون وتضاعيفه. في السماء والأرض. وفي الشمس والقمر، وفي الليل والنهار.. وفي مصارع القرون الأولى، وفي قصص الرسل فيهم.. وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود..
{أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ قال الكافرون. إن هذا لساحر مبين}..
سؤال استنكاري. يستنكر هذا العجب الذي تلقى به الناس حقيقة الوحي منذ كانت الرسل.
لقد كان السؤال الدائم الذي قوبل به كل رسول: أبعث الله بشراً رسولاً؟ ومبعث هذا السؤال هو عدم إدراك قيمة "الإنسان". عدم إدراك الناس أنفسهم لقيمة "الإنسان" الذي يتمثل فيهم. فهم يستكثرون على بشر أن يكون رسول الله، وأن يتصل الله به - عن طريق الوحي - فيكلفه هداية الناس. إنهم ينتظرون أن يرسل الله ملكاً أو خلقاً آخر أعلى رتبة من الإنسان عند الله. غير ناظرين إلى تكريم الله لهذا المخلوق؛ ومن تكريمه أن يكون أهلاً لحمل رسالته؛ وأن يختار من بين أفراده من يتصل بالله هذا الاتصال الخاص:
هذه كانت شبهة الكفار المكذبين على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشبهة أمثالهم في القرون الأولى. فأما في هذا العصر الحديث فيقيم بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم شبهة أخرى لا تقل تهافتاً عن تلك!
إنهم يسألون: كيف يتم الاتصال بين بشر ذي طبيعة مادية وبين الله المخالف لطبيعة كل شيء مما خلق.
والذي ليس كمثله شيء؟
وهو سؤال لا يحق لأحد أن يسأله إلا أن يكون قد أحاط علماً بحقيقة الله سبحانه وطبيعة ذاته الإلهية، كما أحاط علماً بكل خصائص الإنسان التي أودعها الله إياه. وهو ما لا يدعيه أحد يحترم عقله، ويعرف حدود هذا العقل. بل يعرف أن خصائص الإنسان القابلة للكشف ما يزال يكشف منها جديد بعد جديد، ولم يقف العلم بعد حتى يقال: إنه أدرك كل الخصائص الإنسانية القابلة للإدراك. فضلاً على أنه ستبقى وراء إدراك العلم والعقل دائماً آفاق من المجهول بعد آفاق!
ففي الإنسان إذن طاقات مجهولة لا يعلمها إلا الله. والله أعلم حيث يجعل رسالته في الإنسان ذي الطاقة التي تحمل هذه الرسالة. وقد تكون هذه الطاقة مجهولة للناس، ومجهولة لصاحبها نفسه قبل الرسالة. ولكن الله الذي نفخ في هذا الإنسان من روحه عليم بما تنطوي عليه كل خلية، وكل بنية، وكل مخلوق؛ وقادر على أن يطوع لإنسان هذا الاتصال الخاص بكيفية لا يدركها إلا من ذاقها وأوتيها.
ولقد جهد ناس من المفسرين المحدثين في إثبات الوحي عن طريق العلم للتقريب. ونحن لا نقر هذا المنهج من أساسه. فللعلم ميدان. هو الميدان الذي يملك أدواته. وللعلم آفاق هي الآفاق التي يملك أدوات كشفها ومراقبتها. والعلم لم يدع أنه يعرف شيئاً حقيقياً عن الروح. فهي ليست داخلة في نطاق عمله، لأنها ليست شيئاً قابلاً للاختبار المادي الذي يملك العلم وسائله. لذلك تجنب العلم الملتزم للأصول العلمية أن يدخل في ميدان الروح. أما ما يسمى "بالعلوم الروحانية" فهي محاولات وراءها الريب والشكوك في حقيقتها وفي أهدافها كذلك! ولا سبيل إلى معرفة شيء يقيني في هذا الميدان إلا ما جاء من مصدر يقيني كالقرآن والحديث وفي الحدود التي جاء فيها بلا زيادة ولا تصرف ولا قياس. إذ أن الزيادة والتصرف والقياس عمليات عقلية. والعقل هنا في غير ميدانه. وليس معه أدواته. لأنه لم يزود بأدوات العمل في هذا الميدان.
{أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟}.
فهذه خلاصة الوحي: إنذار الناس بعاقبة المخالفة، وتبشير المؤمنين بعقبى الطاعة. وهذا يتضمن بيان التكاليف الواجبة الاتباع وبيان النواهي الواجبة الاجتناب. فهذا هو الإنذار والتبشير ومقتضياتهما على وجه الإجمال.
والإنذار للناس جميعاً. فكل الناس في حاجة إلى التبليغ والبيان والتحذير: والبشرى للذين آمنوا وحدهم. وهو يبشرهم هنا بالطمأنينة والثبات والاستقرار.. تلك المعاني التي توحي بها كلمة (صدق) مضافة إلى القدم. في جو الإنذار والتخويف. {قدم صدق}.. قدم ثاتبة راسخة موقنة لا تتزعزع ولا تضطرب ولا تتزلزل ولا تتردد، في جو الإنذار وفي ظلال الخوف، وفي ساعات الحرج.. {قدم صدق عند ربهم}.. في الحضرة التي تطمئن فيها النفوس المؤمنة. حينما تتزلزل القلوب والأقدام.
وحكمة الله واضحة في الإيحاء إلى رجل منهم. رجل يعرفهم ويعرفونه، يطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه، بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج. أما حكمته في إرسال الرسل فهي أوضح، والإنسان مهيأ بطبعه للخير والشر، وعقله هو أداته للتمييز. ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائماً كلما غم عليه الأمر، وأحاطت به الشبهات، وجذبته التيارات والشهوات، وأثرت فيه المؤثرات العارضة التي تصيب البدن والأعصاب والمزاج، فتتغير وتتبدل تقديرات العقل أحياناً من النقيض إلى النقيض. هو في حاجة إلى ميزان مضبوط لا يتأثر بهذه المؤثرات ليعود إليه، وينزل على إرشاده، ويرجع إلى الصواب على هداه. وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعة الله.
وهذا يقتضي أن تكون لدين الله حقيقة ثابتة يرجع إليها العقل البشري بمفهوماته كلها؛ فيعرضها على هذا الميزان الثابت، وهناك يعرف صحيحها من خاطئها.. والقول بأن دين الله هو دائماً "مفهوم البشر لدين الله" وأنه من ثم "متطور في أصوله" يعرّض هذه القاعدة الأساسية في دين الله - وهي ثبات حقيقته وميزانه - لخطر التميع والتأرجح والدوران المستمر مع المفهومات البشرية. بحيث لا يبقى هنالك ميزان ثابت تعرض عليه المفهومات البشرية..
والمسافة قصيرة بين هذا القول، والقول بأن الدين من صنع البشر.. فالنتيجة النهائية واحدة، والمزلق خطر وخطير للغاية، والمنهج بجملته يستوجب الحذر الشديد.. منه ومن نتائجة القريبة والبعيدة..
ومع وضوح قضية الوحي على هذا النحو، فإن الكافرين يستقبلونها كما لو كانت أمراً عجيباً:
{قال الكافرون: إن هذا لساحر مبين}..
ساحر لأن ما ينطق به معجز. وأولى لهم - لو كانوا يتدبرون - أن يقولوا: نبي يوحى إليه لأن ما ينطق به معجز. فالسحر لا يتضمن من الحقائق الكونية الكبرى ومن منهج الحياة والحركة، ومن التوجيه والتشريع ما يقوم به مجتمع راقٍ، وما يرتكز عليه نظام متفرد.
ولقد كان يختلط عندهم الوحي بالسحر، لاختلاط الدين بالسحر في الوثنيات كلها؛ ولم يكن قد وضح لهم ما يتضح للمسلم حين يدرك حقيقة دين الله؛ فينجو من هذه الوثنيات وأوهامها وأساطيرها.
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه. ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون؟ إليه مرجعكم جميعاً، وعد الله حقاً، إنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون. هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب. ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون، إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون}..
وهذه هي القضية الأساسية الكبرى في العقيدة. قضية الربوبية.. فقضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين. فهم كانوا يعتقدون بوجود الله - لأن الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الاعتقاد بوجود إله لهذا الكون إلا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف - ولكنهم كانوا يشركون مع الله أرباباً يتوجهون إليهم بالعبادة. إما ليقربوهم إلى الله زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله.
والقرآن الكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية - كالذي جدَّ فيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية - إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر:
إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن. وجعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل. وقدر اختلاف الليل والنهار.. هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس، وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها تدبر الواعي المدرك.. إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئاً من خلقه.. أليست قضية منطقية حية واقعية، لا تحتاج إلى كد ذهن، ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة، ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان؟!
إن هذا الكون الهائل. سماواته وأرضه. شمسه وقمره. ليله ونهاره. وما في السماوات والأرض من خلق، ومن أمم ومن سنن، ومن نبات ومن طير ومن حيوان، كلها تجري على تلك السنن..
إن هذا الليل الطامي السادل الشامل، الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح. وهذا الفجر المتفتح في سدف الليل كابتسامة الوليد الراضي. وهذه الحركة يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء. وهذه الظلال الساربة يحسبها الرائي ساكنة وهي تدب في لطف. وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال. وهذا النبت النامي المتطلع أبداً إلى النمو والحياة. وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق. وهذه الأرحام التي تدفع والقبور التي تبلع، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله...
إن هذا الحشد من الصور والضلال، والأنماط والأشكال، والحركات والأحوال، والرواح والذهاب، والبلى والتجدد، والذبول والنماء، والميلاد والممات، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار..
إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتأثر، حين يستيقظ القلب، ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه.. والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب والعقل لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات.
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام}..
إن ربكم الذي يستحق الربوبية والعبادة هو هذا الخالق، الذي خلق السماوات والأرض. خلقها في تقدير وحكمة وتدبير:
{في ستة أيام}..
حسب ما اقتضت حكمته أن يتم تركيبها وتنسيقها وتهيئتها لما أراده الله.
ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة. فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها. وإنما ذكرت لبيان حكمة التقدير والتدبير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية..
وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله، الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر. فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه. والمقصود بذكرها هو الإشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام، الذي يسير به الكون من بدئه إلى منتهاه.
{ثم استوى على العرش}..
والاستواء على العرش. كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة، باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني، على طريقة القرآن القرآن في التصور (كما فصلنا هذه في فصل التخييل الحسي والتجسيم من كتاب التصوير الفني في القرآن).
و {ثم} هنا ليست للتراخي الزماني، إنما هي للبعد المعنوي، فالزمان في هذا المقام لا ظل له. وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله - سبحانه - ثم كانت. فهو - سبحانه - منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمان والمكان. لذلك نجزم بأن {ثم} هنا للبعد المعنوي، ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم. لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات، وعن مقتضيات الزمان والمكان.
{يدبر الأمر}..
ويقدر أوائله وأواخره، وينسق أحواله ومقتضياته، ويرتب مقدماته ونتائجه، ويختار الناموس الذي يحكم خطواته وأطواره ومصائره.
{ما من شفيع إلا من بعد إذنه}..
فالأمر كله له، والحكم كله إليه. وما من شفعاء يقربون إلى الله زلفى. وما من شفيع من خلقه إلا حيث يأذن له بالشفاعة، وفقاً لتدبيره وتقديره، واستحقاق الشفاعة بالإيمان والعمل الصالح، لا بمجرد التوسل بالشفعاء.. وهذا يواجه ما كانوا يعتقدونه من أن للملائكة التي يعبدون تماثيلها شفاعة لا ترد عند الله!
ذلكم الله الخالق المدبر الحاكم الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.. {ذلكم الله ربكم}.. الخليق بالربوبية {فاعبدوه} فهو الذي يستحق الدينونة له دون سواه.. {أفلا تذكرون}؟.. فالأمر من الثبوت والوضوح بحيث لا يحتاج إلا لمجرد التذكر لهذه الحقيقة المعروفة..
ونقف لحظة أمام قوله تعالى بعد عرض دلائل الألوهية في السماوات والأرض:
{ذلكم الله ربكم فاعبدوه}..
وقد قلنا: إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين، فقد كانوا يعترفون بأن الله - سبحانه - هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء.. ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته. فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم.. والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده؛ فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له؛ ولا يحكمون في أمرهم كله غيره.. وهذا معنى قوله تعالى:
{ذلكم الله ربكم فاعبدوه}..
فالعبادة هي العبودية، وهي الدينونة، وهي الاتباع والطاعة، مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها، لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية.
وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية. ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان؛ وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية؛ دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية.. أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره، وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه..
كذلك ينحسر معنى "العبادة" في الجاهلية، حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر. ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده، فقد عبدوا الله وحده.. بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد. و"عبد" تفيد ابتداء "دان وخضع". وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها.
والجاهلية ليست فترة من الزمان، ولا مرحلة من المراحل. إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو، معنى العبادة. هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله! كما هو الحال اليوم في كل بلاد الأرض، بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين، ويؤدون الشعائر لله، بينما أربابهم غير الله، لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما يشرعه لهم، وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "
.. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم" . في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي.
ولتوكيد معنى العبادة المقصود جاء في السورة ذاتها قوله تعالى: {
قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً. قل: آلله أذن لكم أم على الله تفترون؟}.. وما نحن فيه اليوم لا يفترق في شيء عما كان عليه أهل الجاهلية هؤلاء الذين يناديهم الله بقوله:
{ذلكم الله ربكم فاعبدوه. أفلا تذكرون!}..
اعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. فإن مرجعكم إليه، وحسابكم عنده، وهو يجزي المؤمنين والكافرين:
{إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً}..
إليه وحده لا للشركاء والشفعاء.
وقد وعد فلا خلف ولا تخلف، فالبعث هو تتمة الخلق:
{إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}..
فالعدل في الجزاء غاية من غايات الخلق والإعادة:
{ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط...}.
والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة. إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة، أو من عقابيل تعقبها - إلا لذائذ الروح الخاصلة وهذه قلما تخلص لبشر - ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصاً منها وحائلاً دون كمالها. فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها، وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء.. وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل. فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية، الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم، إلى أعلى مراتب البشرية.
فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس، فلم يسيروا في طريق الكمال البشري، بل جانبوه، وهذا يقتضي - حسب السنة التي لا تتخلف - ألا يصلوا إلى مرتبة الكامل، لأنهم جانبوا قانون الكمال؛ وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية. هذا يلقاه مرضاً وضعفاً، وأولئك يلقونه تردياً وانتكاساً، وغصصاً بلا لذائذ - في مقابل اللذائذ بلا غصص.
{والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}..
وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده، الذي إليه المرجع وعنده الجزاء.. يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض:
{هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب. ما خلق الله ذلك إلا بالحق. يفصل الآيات لقوم يعلمون}..
فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون، ننساهما لطول الألفة، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار، وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب، وأول مطلع قمر وأول مغيب؟
هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي، والتأمل الذي لم يبلده التكرار، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم:
{هو الذي جعل الشمس ضياء}..
فيها اشتعال.
{والقمر نوراً}..
فيه إنارة.
{وقدره منازل}..
ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة، كما هو مشهود في القمر، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون.
{لتعلموا عدد السنين والحساب}..
وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس.
هل هذا كله عبث؟ هل هذا كله باطل؟ هل هذا كله مصادفة؟
كلا ما يكون كل هذا النظام، وكل هذا التناسق، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة. ما يكون هذا كله عبثاً ولا باطلاً ولا مصادفة عابرة:
{ما خلق الله ذلك إلا بالحق}..
الحق قوامه. الحق أداته. والحق غايته. والحق ثابت راجح راسخ. وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة:
{يفصل الآيات لقوم يعلمون}..
فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر.
ومن خلق السماوات والأرض، ومن جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار، وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب:
{إن في اختلاف الليل والنهار، وما خلق الله في السماوات والأرض.. لآيات لقوم يتقون}..
واختلاف الليل والنهار تعاقبهما. ويشمل كذلك اختلافهما طولاً وقصراً، وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس. إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس، وينتفض فيها الوجدان للمطالع والمغارب، فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون، يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب. وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية، وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الأستقبال والاستجابة..
{وما خلق الله في السماوات والأرض}..
ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب {وما خلق الله في السماوات والأرض} ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس، والهيئات والأحوال، والأوضاع والأشكال. لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش.. ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب، فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة، ثم يتركه ليتملاه.. إن في ذلك كله:
{لآيات لقوم يتقون}..
تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص. وجدان التقوى. الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة، سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع.
هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون؛ والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة!
ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة؛ لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة؛ ولا تؤدي إلى بناء حياة؛ وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء!
ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني - بأسلوبه هذا - هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعاً - وهذه ميزتها - فإن وجود هذا الكون ذاته أولاً. ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة؛ وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر - حتى قبل أن يعرفها البشر - ثانياً.. إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة..
والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلاً معقولاً. ولا يزيدون على أن يقولوا: إن الكون وجد هكذا بقوانينه؛ وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل؛ ووجوده يتضمن قوانينه! فإن كان هذا كلاماً مفهوماً - أو معقولاً - فذاك!
ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا؛ لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله! ثم أصبح يقال هنا وهناك، لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله. ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله، ثم يماري في ربوبيته، على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة. فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته. ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم؛ فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع.. فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء!
ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى "إسلامية" يروَّج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم "العلم" و "العلمية"! فيقال: إن "الغيبية" لا مكان لها في الأنظمة "العلمية".. ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية..! ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب. لا يخشون الله إنما يخشون الناس، فيحتالون عليهم هذا الاحتيال!
وما تزال دلالة وجود الكون ذاته، ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة. تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك. والفطرة البشرية بجملتها - قلباً وعقلاً وحساً ووجداناً - تواجه هذه الدلالة، وتستجيب لها. وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها. يخاطبها من أقصر طريق، ومن أوسع طريق وأعمق طريق!!!
والذين يرون كل هذا، ثم لا يتوقعون لقاء الله؛ ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة، وأن الدنيا ليست النهاية، لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود؛ والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين، لا تحرك فيهم قلباً يتدبر، ولا عقلاً يتفكر.. هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري، ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون. إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم:
{إن الذين لا يرجون لقاءنا، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم، تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم. دعواهم فيها سبحانك اللهم. وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}..
إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً، لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام، يتم فيها تحقيق القسط والعدل؛ كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا، ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله، ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا، بما فيها من نقص وهبوط، ويرضونها ويستغرقون فيها، فلا ينكرون فيها نقصاً، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر؛ وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر، ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم. والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط، لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة، ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق. إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائماً إلى هذه الأرض وما عليها! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب، وترفع الحس، وتحفز إلى التطلع والكمال..
{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}..
وبئس المأوى وبئس المصير!
وفي الضفة الأخرى الذين آمنوا وعملوا الصالحات. الذين آمنوا فأدركوا أن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا، وعملوا الصالحات بمقتضى هذا الإيمان، تحقيقاً لأمر الله بعمل الصالحات، وانتظاراً للآخرة الطيبة.. وطريقها هو الصالحات.. هؤلاء.
{يهديهم ربهم بإيمانهم}..
يهديهم إلى الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين الله، ويفتح بصائرهم على استقامة الطريق، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه.. هؤلاء يدخلون الجنة.
{تجري من تحتهم الأنهار}..
وما يزال الماء ولن يزال يوحي بالخصب والري والنماء والحياة..
فما همومهم في هذه الجنة وما هي شواغلهم، وما هي دعواهم التي يحبون تحقيقها؟ إن همومهم ليست مالاً ولا جاهاً، وإن شواغلهم ليست دفع أذى ولا تحصيل مصلحة. لقد كفو شر ذلك كله، ولقد اكتفوا فما لهم من حاجة من تلك الحاجات، ولقد استغنوا بما وهبهم الله، ولقد ارتفعوا عن مثل هذه الشواغل والهموم، إن أقصى ما يشغلهم حتى ليوصف بأنه {دعواهم} هو تسبيح الله أولاً وحمده أخيراً. يتخلل هذا وذاك تحيات بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين ملائكة الرحمن:
{دعواهم فيها: سبحانك اللهم. وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم: أن الحمد لله رب العالمين}..
إنه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا وشواغلها، والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها، والرفرفة في آفاق الرضى والتسبيح والحمد والسلام. تلك الآفاق اللائقة بكمال الإنسان.
بعد ذلك يواجه السياق القرآني تحديهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبهم تعجيل العذاب الذي يتوعدهم به؛ ببيان أن تأجيله إلى أجل مسمى هو حكمة من الله ورحمة. ويرسم لهم مشهدهم حين يصيبهم الضر فعلاً، فتتعرى فطرتهم من الركام وتتجه إلى خالقها. فإذا ارتفع الضر عاد المسرفون إلى ما كانوا فيه من غفلة. ويذكرهم مصارع الغابرين الذين استخلفوا هم من بعدهم؛ ويلوح لهم بمثل هذا المصير؛ ويبين لهم أن الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء وبعدها الجزاء..
{ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون. وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون. ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا، وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}.
ولقد كان المشركون العرب يتحدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعجل لهم العذاب.. ومما حكاه الله تعالى عنهم في هذه السورة: {
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} وورد في غيرها: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات} كما حكى القرآن الكريم قولهم: {وإذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}.. وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله.. وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم، فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعه بالمكذبين قبلهم. فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين، فيقوم عليها، وينطلق في الأرض بها. وكان ذلك بعد فتح مكة، مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة! غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي. لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر!
والله سبحانه يقول لهم في الآية الأولى: إنه لو عجل لهم بالشر الذي يتحدون باستعجاله، استعجالهم بالخير الذي يطلبونه.. لو استجاب الله لهم في استعجالهم كله لقضى عليهم، وعجل بأجلهم! ولكنه يستبقيهم لما أجلهم له.. ثم يحذرهم من هذا الإمهال أن يغفلوا عما رواءه. فالذين لا يرجون لقاءه سيظلون في عمايتهم يتخبطون، حتى يأتيهم الأجل المرسوم.
وبمناسبة الحديث عن استعجال الشر يعرض صورة بشرية للإنسان عندما يمسه الضر، تكشف عن التناقض في طبيعة هذا الإنسان الذي يستعجل الشر وهو يشفق من مس الضر، فإذا كشف عنه عاد إلى ما كان فيه:
{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً؛ فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}..
إنها صورة مبدعة لنموذج بشري مكرور.. وإن الإنسان ليظل مدفوعاً مع تيار الحياة، يخطئ ويذنب ويطغى ويسرف، والصحة موفورة، والظروف مواتية. وليس - إلا من عصم الله ورحم - من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن هناك ضعفاً وأن هناك عجزاً. وساعات الرخاء تُنسي. والإحساس بالغنى يُطغي.. ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع، وإذا هو كثير الدعاء، عريض الرجاء، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء. فإذا استجيب الدعاء وكشف الضر انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر. انطلق إلى ما كان فيه من قبل من اندفاع واستهتار.
والسياق ينسق خطوات التعبير وإيقاعه مع الحالة النفسية التي يصورها، والنموذج البشري الذي يعرضه. فيصور منظر الضر في بطء وتلبث وتطويل:
{دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً}..
يعرض كل حالة وكل وضع وكل منظر، ليصور وقفة هذا الإنسان وقد توقف التيار الدافع في جسمه أو في ماله أو في قوته كما يتوقف التيار أمام السد، فيقف أو يرتد. حتى إذا رفع الحاجز "مر" كلمة واحدة تصور الاندفاع والمروق والانطلاق. "مر" لا يتوقف.
ليشكر، ولا يلتفت ليتدبر، ولا يتأمل ليعتبر:
{مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه}..
واندفع مع تيار الحياة دون كابح ولا زاجر ولا مبالاة!
وبمثل هذه الطبيعة. طبيعة التذكر فقط عند الضر، حتى إذا ارتفع انطلق ومر. بمثل هذه الطبيعة استمر المسرفون في إسرافهم، لا يحسون ما فيه من تجاوز للحدود:
{كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}..
فماذا كانت نهاية الإسراف في القرون الأولى؟
{ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا، وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين}..
لقد انتهى بهم الإسراف وتجاوز الحد والظلم - وهو الشرك - إلى الهلاك. وهذه مصارعهم كانوا يرون بقيتها في الجزيرة العربية في مساكن عاد وثمود وقرى قوم لوط..
وتلك القرون. جاءتهم رسلهم بالبينات كما جاءكم رسولكم:
{وما كانوا ليؤمنوا}..
لأنهم لم يسلكوا طريق الإيمان، وسلكوا طريق الطغيان فأبعدوا فيها، فلم يعودوا مهيئين للإيمان. فلقوا جزاء المجرمين..
{كذلك نجزي القوم المجرمين}..
وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين، الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا، فحق عليهم العذاب، يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين، وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه:
{ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}..
وهي لمسة قوية للقلب البشري؛ إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك، وإنما هي أيام يقضيها فيه، ممتحناً بما يكون منه، مبتلى بهذا الملك، محاسباً على ما يكسب، بعد بقاء فيه قليل!
إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري.. فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع.. يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى، هي صمام الأمن له، وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه.
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض، وبكل شيء يملكه، وبكل متاع يتاح له، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة؛ ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه.
وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به، والتي يصورها قول الله سبحانه:
{لننظر كيف تعملون}..
ليجعله شديد التوقي، شديد الحذر، شديد الرغبة في الإحسان، وفي النجاة أيضاً من هذا الامتحان!
وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية؛ والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها!.. فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش بتلك التصورات القاصرة.. لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة، ولا في خلق، ولا في حركة؛ كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان!
والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان. ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي؛ وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة. وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة، ولا بمنتجات هذه الحياة أيضاً!
والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية، والنظام الإسلامي، بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر، لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان!
وهنا يتحول السياق من خطابهم إلى عرض نماذج من أعمالهم بعد استخلافهم.
لقد استخلفوا بعد القوم المجرمين. فماذا فعلوا؟
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بيِّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا: ائت بقرآن غير هذا أو بدّله. قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمراً من قبله. أفلا تعقلون؟ فمن أظلم من افترى على الله كذباً أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح المجرمون}..
{ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم؛ ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قل: أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض؟ سبحانه وتعالى عما يشركون. وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون. ويقولون: لولا أنزل عليه آية من ربه، فقل: إنما الغيب لله، فانتظروا إني معكم من المنتظرين}..
هكذا كان عملهم بعد الاستخلاف، وهكذا كان سلوكهم مع الرسول!!!
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بيِّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله}..
وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد، إنما يصدر عن عبث وهزل؛ وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله. وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله!
إن هذا القرآن دستور حياة شامل، منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية، ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق، ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف. ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه، أو يطلب تبديل بعض أجزائه.
وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله؛ كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة، ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية. فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآناً آخر، أو يؤلف جزءاً مكان جزء؟!
{قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي. إن أتبع إلا ما يوحى إلي. إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}..
إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر. إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله، وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه. فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه. وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه. وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم.
{قل: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به. فقد لبثت فيكم عمراً من قبله. أفلا تعقلون؟}.
إنه وحي من الله، وتبليغه لكم أمر من الله كذلك. ولو شاء الله ألا أتلوه عليكم ما تلوته، ولو شاء الله ألا يعلمكم به ما أعلمكم. فالأمر كله لله في نزول هذا القرآن وفي تبليغه للناس. قل لهم هذا. وقل لهم: إنك لبثت فيهم عمراً كاملاً من قبل الرسالة. أربعين سنة. فلم تحدثهم بشيء من هذا القرآن. لأنك لم تكن تملكه. لم يكن قد أوحي إليك. ولو كان في استطاعتك عمل مثله أو أجزاء منه فما الذي أقعدك عمراً كاملاً؟
ألا إنه الوحي الذي لا تملك من أمره شيئاً إلا البلاغ..
وقل لهم: ما كان لي أن أفتري على الله الكذب، وأن أقول: إنه أوحي إلي إلا بالحق. فليس هنالك ما هو أشد ظلماً ممن يفتري على الله أو من يكذب بآيات الله:
{فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته؟}..
وأنا أنهاكم عن ثانية الجريمتين، وهي التكذيب بآيات الله، فلا أرتكب أولاهما ولا أكذب على الله:
{إنه لا يفلح المجرمون}..
ويستمر السياق يعرض ما فعلوه وما قالوه بعد استخلافهم في الأرض، غير هذا الهزل في طلب قرآن جديد..
{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل: اتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات والأرض؟ سبحانه وتعالى عما يشركون}..
والنفس حين تنحرف لا تقف عند حد من السخف. وهذه الأرباب المتعددة التي يعبدونها لا تملك لهم ضرراً ولا نفعاً، ولكنهم يظنونها تشفع لهم عند الله:
{ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله}..
{قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض؟}..
فالله سبحانه لا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون! فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه الله وتنبئونه بما لا يعلم له وجوداً في السماوات ولا في الأرض؟!
إنه أسلوب ساخر يليق بهذا السخف الذي يلجون فيه. يعقبه التنزيه لله عما لا يليق بجلاله مما يدعون:
{سبحانه وتعالى عما يشركون}..
وقبل أن يمضي في عرض ما قالوه وما فعلوه، يعقب على هذا الشرك، بأنه عارض. والفطرة في أصلها كانت على التوحيد، ثم جد الخلاف بعد حين:
{وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا}..
وقد اقتضت مشيئة الله أن يمهلهم جميعاً إلى أجل يستوفونه، وسبقت كلمته بذلك فنفذت لحكمة يريدها:
{ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون}..
وبعد هذا التعقيب يمضي في الاستعراض لما يقول المستخلفون:
{ويقولون: لولا أنزل عليه آية من ربهَ فقل: إنما الغيب لله، فانتظروا إني معكم من المنتظرين}..
فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم المعجز لا تكفيهم. وكل آيات الله المبثوثة في تضاعيف الكون لا تكفيهم. وهم يقترحون خارقة كخوارق الرسل في الأمم قبلهم. غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية. وطبيعة معجزتها. فهي ليست معجزة وقتية تنتهي بمشاهدة جيل، إنما هي المعجزة الدائمة التي تخاطب القلب والعقل في جيل بعد جيل.
ويوجه الله رسوله أن يحيلهم على الله الذي يعلم ما في غيبه، ويقدر إن كان سيبرز لهم خارقة أو لا يبرز:
{فقل: إنما الغيب لله. فانتظروا إني معكم من المنتظرين}..
وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد.. وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية. فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم الأنبياء المرسلين، لا يملك من أمر الغيب شيئاً، فالغيب كله لله. ولا يملك من أمر الناس شيئاً، فأمرهم موكول إلى الله.. وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية، ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة.
وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون، يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر، حين يذوقون الرحمة بعد الضر. كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه. ويضرب لهم مثلاً مما يقع في الحياة يصدق ذلك، فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية:
{وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم، إذا لهم مكر في آياتنا. قل: الله أسرع مكراً، إن رسلنا يكتبون ما تمكرون. هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك، وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق. يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون}..
عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة. فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان.. ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن، مجلوة دائماً بجلاء الإيمان.
{وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم، إذا لهم مكر في آياتنا}..
كذلك صنع قوم فرعون مع موسى. فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه. فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها، وقالوا: إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا.. وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك، فجاءت محمداً تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا، ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه! وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان.
{قل: الله أسرع مكراً. إن رسلنا يكتبون ما تمكرون}..
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون. ومكرهم مكشوف لديه ومعروف، والمكر المكشوف إبطاله مضمون:
{إن رسلنا يكتبون ما تمكرون}..
فلا شيء منه يخفى، ولا شيء منه ينسى. أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون، فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئاً إلا من مثل هذا النص، فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح.
ثم ذلك المشهد الحي، الذي يعرض كأنه يقع، وتشهده العيون، وتتابعه المشاعر، وتخفق معه القلوب، يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون:
{هو الذي يسيركم في البر والبحر}..
ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك.
ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب:
{حتى إذا كنتم في الفلك}..
وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء..
{وجرين بهم بريح طيبة}..
وهذه مشاعر أهل الفلك ندركها:
{وفرحوا بها}..
وفي هذا الرخاء الآمن، وفي هذا السرور الشامل، تقع المفاجأة، فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين:
{جاءتها ريح عاصف}..
يا للهول!
{وجاءهم الموج من كل مكان}..
وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها، ولاطمها الموج وشالها وحطها، ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم.. وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص:
{وظنوا أنهم أحيط بهم}..
فلا مجال للنجاة..
عندئذ فقط، وفي وسط هذا الهول المتلاطم، تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب، وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات، وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه:
{دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين}!
وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج، وتهدأ الأنفاس اللاهثة، وتسكن القلوب الطائرة، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ، ويوقن الناس بالحياة، وأرجلهم مستقرة على اليابسة. فماذا؟
{فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق!}..
هكذا بغتة ومفاجأة!
إنه مشهد كامل، لم تفتنا منه حركة ولا خالجة.. مشهد حادث. ولكنه مشهد نفس، ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل. ومن ثم يجيء التعقيب تحذيراً للناس أجمعين:
{يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم}..
سواء كان بغياً على النفس خاصة، بإيرادها موارد التهلكة، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية؛ أو كان بغياً على الناس فالناس نفس واحدة. على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة.
والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه، واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده.
والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدنيا، قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة. يذوقون هذه العاقبة فساداً في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به، ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضارّ به.
إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله. وإما أن يتعبدهم الطغاة. والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض، وربوبية الله وحدها في حياة البشر، هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة، ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد. ودنس المستنقع، وامتهان الكرامة، وفساد المجتمع، ودناءة الحياة!
{يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم.. متاع الحياة الدنيا}..
لا تزيدون عليه!
{ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون}..
فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك، بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء.
وما قيمة "متاع الحياة الدنيا" هذا وما حقيقته؟ يصور السياق هذه الحقيقة في مشهد من مشاهد القرآن التصويرية الحافلة بالحركة والحياة، وهي مع ذلك من المشاهدات التي تقع في كل يوم، ويمر عليها الأحياء دون انتباه:
{إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام. حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها.. أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}..
ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها، حين يرضون بها، ويقفون عندها، ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى..
هذا هو الماء ينزل من السماء، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر. وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج. وأهلها مزهوون بها، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزينت، وأنهم أصحاب الأمر فيها، لا يغيرها عليهم مغير، ولا ينازعهم فيها منازع.
وفي وسط هذا الخصب الممرع، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق..
{أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس}..
في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة.. وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان.
وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا بعض المتاع.
هذه هي. لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئاً إلا بمقدار.
هذه هي..
{والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}..
فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة، وقد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس.. ودار السلام التي يدعو إليها الله، ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها. حينما تنفتح بصيرته، ويتطلع إلى دار السلام.
في ظلال القرآن/ سيد قطب

vendredi 1 juillet 2011

لا تزيدنا هذه الحملات ضد الاسلام إلا ثباتا ويقينا اللهم أحينا مسامين وتوفنا مسلمين وابعثنا يوم القيامة مسلمين

حب الله ورسوله وصحابته وزوجاته أمهات المؤمنين
على اثر الحملة الاعلامية المنظمة التي يشنها العلمانيون المتطرفون على الله تعالى وعلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى زوجاته رضوان الله عليهن وعلى الصحابة الكرام تحت ستار حرية التعبير وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ أخترت لكم هذا الموضوع الذي ينمي في المسلم محبة الله ورسوله وزوجاته وصحابته الكرام ردا لكيدهم قال تعالى يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ فالمسلم لا يزداد إلا يقينا وتشبثا بدينه وهذه الحملات لن تجدي نفعا لكم ولن تحققوا من خلالها إلا الهزيمة لكم والذل والانكسار والرمي في مزبلة التاريخ
 روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: بينما أنا ورسول الله خارجين من المسجد، فلقينا رجلاً عند سدة المسجد، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال رسول الله : { ما أعددت لها؟ } قال: فكأن الرجل استكان. ثم قال: يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله. قال: { فأنت مع من أحببت }.
وفي رواية أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي : { فإنك مع من أحببت }
. وجوب الاقتداء والعمل بالسنة الشريفة
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وجوب حب وتقدير واحترام أمهات المؤمنين زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
وجوب حب وتقدير واحترام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تمييز
أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته فإنه :
1_ يحبهم لحب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم لهم ، إذ أخبر تعالى أنه يحبهم ويحبونه في قوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) ، كما قال في وصفهم : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه ) .

الطريق الى محبة الله
السبب الأول: قراءة القرآن بتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به، كتدبير الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
نعم فمن أحب أن يكلمه الله تعالى فليقرأ كتاب الله، قال الحسن بن على: ( إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار ).
قال ابن الجوزي رحمه الله: ( ينبغي لتالي القرآن العظيم أن ينظر كيف لطف الله تعالى بخلقه في إيصاله معاني كلامه إلى أفهامهم وأن يعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر، وأن يستحضر عظمة المتكلم سبحانه، بتدبر كلامه ).
السبب الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها موصلة إلى درجة المحبوب بعد المحبة.
قال رسول الله في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه وتعالى: { من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشىء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه } [البخاري].
السبب الثالث: دوام ذكره على كل حال، بالسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر.
قال رسول الله : { إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه } [صحيح ابن ماجه للألباني] وقال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
السبب الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
يقول ابن القيم في شرح هذه العبارة: ( إيثار رضى الله على رضى غيره، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطول والبدن ).
السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله بأسمائه وأفعاله، أحبه لا محالة.
السبب السادس: مشاهدة بره وإحسانه، وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
*      وإِن تَعُدُوا نِعمَتَ اللّهِ لاَ تُحصُوهَآ إنّ الإِِنسَانَ لَظََلُومٌ كَفّارٌ [إبراهيم:34].
السبب السابع: وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته، بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن المعنى غير الأسماء والعبارات.
والإنكسار بمعنى الخشوع، وهو الذل والسكون.
قال تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصوَاتُ لِلرّحمَنِ فَلاَ تَسمَعُ إِلاهَمساً [طه:108].
السبب الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
قال تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُم عَنِ المَضاجِعِ يَدعون ربهم خوفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقُونَ [السجدة:16].
إن أصحاب الليل هم بلا شك من أهل المحبة، بل هم من أشرف أهل المحبة، لأن قيامهم في الليل بين يدي اللّه تعالى يجمعُ لهم جلّ أسباب المحبة التي سبق ذكرها.
ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقول له: ( وأعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس ) [السلسلة الصحيحة].
يقول الحسن البصري رحمه اللّه: ( لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل فقيل له: ما بال المجتهدين من أحسن الناس وجوهاً فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره ).
السبب التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
قال رسول الله : { قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ } [صححه الألباني: مشكاة المصابيح].
قال رسول الله : { أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في الله } [السلسلة الصحيحة:728]
فمحبة المسلم لأخيه المسلم في الله، ثمرة لصدق الإيمان وحسن الخلق وهي سياج واق، ويحفظ الله به قلب العبد، ويشد فيه الإيمان حتى لا يتفلت أو يضعف.
السبب العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون دنياه ولن يجد نفعاً أو كسباً في أخراه. قال تعالى: يَومَ لَا يَنفَعُ مَالٌ ولاَ بَنُوُنَ إِلاّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88].
وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } * { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ } * { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } * { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } * { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } * { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } * { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ


} اللهمّ لك الحمد أنت قيّوم السّماوات والأرض فلك الحمد ، لك الحمد انت ربّ السّماوات والأرض فلك الحمد ، أنت حقّ وكتابك حقّ والنبيّون حقّ والجنّة حقّ والنّار حقّ ،،،اللهمّ صلّ وسلّم على نبيّك المصطفى ورسولك المجتبى وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهمّ إنّا نسألك أن تقوّي فيك يقيننا ، وان تنير طريقنا ، وأن ترينا الحقّ حقّا وترزقنا إتباعه وأن ترنا الباطل باطلا وتجنّبنا إتباعه ،اللهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام ، واكلأنا في كنفك الذي لا يضام ، اللهمّ افتح لنا فتحا مبينا ، واهدنا صراطك المستقيم وانصرنا نصرا عزيزا  وأتم علينا نعمتك وأنزل في قلوبنا سكينتك وانشر علينا فضلك ورحمتك، اللهم عليك باليهود الغادرين الغاصبين ، وعليك بالمجرمين المضطهدين الظالمين ، اللهم خذهم ومن ناصرهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أذهب ريحهم وأزل دولتهم وأذهب عن أرضك سلطانهم ولا تدع لهم سبيلاً على أحد من عبادك المؤمنين، اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد الإسلام، اللهم أكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.اللهمّ انزل علينا الغيث ولا تجعلنا من عبادك القانطين ، وجازي المحسنين والمتصدّقين والمحبّسين وارحم الوالدين واشف مرضانا وارحم موتانا  واجعل الجنّة مأواهم ومأوانا  وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين  .